المقصود بالزهد: المقصود بالزهد هو الاستغناء عن متاع الدنيا مع القدرة عليه، وليس الزهد يعني التكاسل عن طلب الرزق والغنى.
فإن قولنا "مع القدرة عليه" ينفي ذلك، فالقدرة على متاع الدنيا تستلزم السعي لتحصيله بالوسائل المشروعة.
ومن ثمّ يحدث الغنى، والغنىّ يكون زاهدًا إذا كان ماله لا يتحكم فيه وفي تصرفاته، فيدعوه إلى منع الزكاة، ولتقصير في الصدقة، أو الاستمتاع بالمحرمات، ويكون زاهدًا إذا كان وجود المال معه يتساوى مع فقده.
ولذلك كان من دعاء عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا".
كما يشمل الزهد الاستغناء عن المناصب والجاه، كما أنَّ من الزهد في الدنيا كلها، وتفضيل الآخرة على الأولى، والتضحية بالنفس في سبيل الله عز وجل..
ما جاء في مدح هذا الخلق:
لقد مدح الله عز وجل الأنصار الذين زهدوا في أموالهم، وعرضوها طيبةً بها نفوسهم إخوانهم المهاجرين فقال: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"..
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليد التي تعطي خير من التي تأخذ فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:
(الأول)
وقد شرح الحافظ ابن حجر الحديث فقال:
(الثاني)
قيمة الزهد في المجتمع:
الزهد من القيم التي تحفظ المجتمع من الصراعات الداخلية، ويزيد مساحة الحُب بين أفراد هذا المجتمع، فإن أغلب الصراعات تنشأ من التنافس على المال والسلطة.
وكم يحدث من صراعات بين شركات ضخمة على الأسواق تستخدم فيها وسائل دنيئة وإجرامية، حتى العمال والأجراء يدفعهم التنافس على الحكم والنفوذ والجاه، فحدّث ولا حرج.
فكم من دماء أريقت، وأبرياء سُجنوا وعذبوا، وأعراض انتهكت، وبيوت خُرّبت بسبب هذا الصراع على السلطة..
إن الزهد هو الحل لكل هذه المشاكل والصراعات.. الزهد هو الذي يبرئ النفوس من أسقامها، ويجعلها تتخلى عن أي شئ، وتزهد فيه ابتغاء مرضات الله عز وجل مع اليقين في أنّ لكل نفس رزقها، لا تموت قبل أن تستوفيه، وأجلًا لا يقدم ولا يؤخر..
مواقف من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مثالًا ونموذجًا للزهد في متاع الدنيا، مع القدرة عليه، وكان العنوان الذي نستطيع أن نصوغ به هذه الحياة ونختصرها فيه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
(الثالث)
وهذا الحديث ـ وإن كان قد ورد في نهاية الحياة النبوية الشريفة أو قبلها بقليل ـ فإنه يختصر منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع متاع الدنيا القليل الزائل.
أما تفصيل حياته صلى الله عليه وسلم، فيدعك خجلًا أمام نفسك من النعيم الذي ترفل فيه، وأنت تراه قليلًا وتبحث عن الأفضل.
بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش أقل من ذلك درجات كثيرة، وهو يقدر على ما لا تقدر أنت عليه، ثم هو ـ رغم ذلك ـ يتخوّف حساب الله على هذه النعم..
فعن عائشة رضي الله عنها:
(الحديث الثامن)
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يرزقه وأهله القوت اليسير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه
(الحديث الرابع عشر)
ويشهد أبو هريرة رضي الله عنه على حال طعام آل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
(الحديث الثاني عشر)
ولذلك فإن من الغرائب والعجائب التي استحقت أن يهتم بها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. .
(الحديث الثالث عشر)
هذه المرة التي استحقت أن تذكر، كيف نقارنها بأحوال المترفين الذين يستوردون اليوم كل الأطعمة الفاخرة التي لا يعلم البسطاء عن أسمائها، فضلًا عن مذاقها شيئًا.
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا، ومات هكذا، فعن عائشة
(الحديث العاشر)
أما فراش الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن وثيرًا كقيصر وكسرى، بل كان كما تصفه عائشة رضي الله عنها..
(الحديث العشرون)
كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم زاهدًا في الملك، فقد عرض الله عز وجل أن يكون عبدًا رسولًا أو ملكًا رسولًا، فاختار العبودية على الملك، فاستحق أعلى درجات الرفعة بين البشر أجمعين..
مواقف للصحابة:
من الطبيعي أن تخرج الثمرة طيبةً يانعةً، ما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد أحسن اختيار التربة الصالحة، وأحسن غراسها، وتعهّدها برعايته، ولذا جاء الصحابة على خطى الرسول صلى الله عليه وسلم زاهدين في متع الحياة رغم قدرتهم عليها، فهذا صهيب يضحي بماله زهدًا فيه ليهاجر، ويفوز برضوان الله، فكانت صفقة رابحة..
(الحديث لخامس)
وطابت ثمرة الأنصار فبعد أن أرادوا التنازل لإخوانهم المهاجرين عن نصف أموالهم طوعًا، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعوضهم بإقطاع في البحرين فقد أخرج الإمام مالك:
(الحديث السادس)
وزهد الصحابة رضوان الله عليهم في الحياة الدنيا نفسها مقدمين الآخرة على الأولى، فهذا عمير بن الحمام رضي الله عنه يضرب المثل في ذلك، فعن أنس بن مالك
(الحديث الثامن عشر)
فبمقارنة متاع الدنيا الزائل المحدود القليل بمتاع الآخرة الباقي الواسع المتنوع المستمر القريب يزهد المؤمن في الدنيا ومشقاتها، ويتحرر من أسرها..
ـ تطبيقات عملية للزهد في حياتنا اليوم:
اتضح لنا أهمية الزهد في حياة المجتمعات، وأن مجالات الحياة جميعها تحتاج إليه، فمن ذلك:
1ـ المجال السياسي:
حيث يعتبر الصراع على السلطة والنفوذ من أخطر وأشرس الصراعات، فمن ثم كان الزهد فيهما ما يرفع قدر المسلم عند الله، ما دام هناك بديل يرضي الله عز وجل جاء بطريق شرعي كالانتخابات ـ مثلًا ـ ويقيم شرع الله كما يحب سبحانه، ويؤدي واجباته نحو أمتع ورعيته، وهذه القيود ورغمًا عن الشعب، ولا يهتم بشئون الرعية، فهذا لا مانع ـ بل لابد ـ من إزاحته عن السلطة، واختيار من هو أرضي لله منه..
2ـ المجال المالي:
فإن الله عز وجل قسّم الأرزاق، وأعطى الجميع، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر (يعني يضيق) فالمفترض ألا يكون هناك صراع على ذلك الجانب، ولكن الطمع والشره (وهما عكس الزهد) يدفعان أصحاب رؤوس الأموال والشركات إلى ذلك الصراع الدموي، فالتعاون وحده والزهد في المال الحرام حلّ لهذه المشكلة..
3ـ مجال العمل الواحد:
إن المهنيين والحرفيين الذين يعملون في مجال واحد يعيشون صراعًا مريرًا على الرزق، وهم يحتاجون إلى بثّ قيمة الزهد، مع اليقين برزق الله عز وجل..
4ـ مجال المتع الدنيوية:
فقد خاطب أصحاب الشركات غرائز المستهلكين، فاندفعوا يحصلون على كل متاع من مطعم وملبس وترفيه، بينما يعيش الغالبية العظمى من المسلمين تحت خط الفقر، وكأننا في عالمين مختلفين، وهذا مما يقطع أواصر الأخوة، وينبت العداوة والبغضاء، فلابد أن يزهد من يفعل ذلك من المترفين في المتع ولو قليلًا، لينعدل ميزان المجتمع..
نصائح نبوية عملية للتحلي بالزهد:
منحنا الرسول صلى الله عليه وسلم نصائح للتحلي بهذا الخلق المهم عندما بَيّن لنا أن الزهد فيما عند الناس هو الطريق إلى حب الناس، وأن الزهد في الدنيا كلها هو الطريق إلى حب الله عز وجل
(الحديث السادس عشر)
كما أنه صلى الله عليه وسلم زهدنا في الدنيا عندما ذكرنا بضآلتها وحقارتها
(الحديث السابع عشر)
كمّا علمنا في كثير من الأحاديث الشريفة أنّ أي عبادة أعظم من متاع الدنيا
(الحديث التاسع عشر)
ومن الوسائل الناجعة لتزهيد النفس أن ينظر العبد في أمور الدنيا إلى من هو دونه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه:
(الحديث الخامس عشر)
كما أنه صلى الله عليه وسلم سلك طريق الأمثال لتقريب الفكرة والدعوة للزهد إلى الأذهان فعن أبي هريرة
(الحديث الحدي عشر)
وبذلك تهدأ لنفوس، وتسمو على أطماع الدنيا الزائلة، وتزهد فيها..
المصدر: موقع قصة الإسلام